بقلم: الدكتور سيد عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني
إحدى أهم القضايا التي كشفتها هذه المشادة هي التداخل العميق بين السياسة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة. فبينما يُفترض أن يركز ترامب وفانس على التحديات الدولية، يجدان نفسيهما غارقين في المشهد السياسي الداخلي المتوتر. فمع اقتراب الانتخابات، واشتداد المنافسة الحزبية، وتزايد الضغوط الداخلية، باتت العديد من القرارات الدبلوماسية الكبرى تتأثر بالاعتبارات الداخلية أكثر من المصالح الاستراتيجية.
هذا الوضع لا يمثل تحديًا لأمريكا فحسب، بل يشكل أيضًا أزمة لحلفائها، حيث تصبح القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الأمريكية أكثر صعوبة في مثل هذه الظروف.
إيران: نهج الحكمة والتدبير، واختيار الاستقلال بوعي
في ظل هذا المشهد المضطرب، تتابع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التطورات بدقة وتدبير. فالاضطراب في السياسة الدولية يهدد دائمًا الاستقرار والأمن العالمي. وعلى عكس العديد من الفاعلين المنخرطين في توترات كلامية وسياسات متسرعة، ظلت إيران متمسكة بمبادئها القائمة على الاستقلال، والاحترام المتبادل، وتجنب الانخراط في الخطابات غير البنّاءة.
لكن استقلال إيران لم يكن صدفة أو نتيجة لظروف مفروضة، بل كان خيارًا واعيًا، وقرارًا استراتيجيًا، ومبدأ ثابتًا في سياستها الخارجية. فعلى عكس بعض الدول التي بحثت عن أمنها واستقرارها في التبعية للقوى الخارجية، أدركت إيران منذ زمن بعيد أن التبعية لا تؤدي إلا إلى عدم الاستقرار وفقدان السيادة الوطنية. فالأمن الحقيقي لا يتحقق عبر دعم القوى العابرة للإقليم، بل ينبع من القدرات الداخلية، والاستفادة من الإمكانات الوطنية، والاعتماد على الشعب.
لهذا السبب، اختارت إيران مسارًا مختلفًا؛ مسارًا لا يكون فيه مصير البلاد مرهونًا بقرارات الآخرين، بل تُصاغ سياساتها وفقًا للمصالح الوطنية، وليس تحت تأثير الإملاءات الخارجية.
الحفاظ على الاستقلال له ثمن، وإيران دفعت هذا الثمن دائمًا. فمنذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية، فُرضت عليها ضغوط اقتصادية وعقوبات وتهديدات عسكرية وحروب بالوكالة، وكل ذلك بهدف تحويلها إلى لاعب تابع في النظام الدولي. لكن، وعلى عكس ما توقع خصومها، صمدت إيران، وأثبتت أنها لا تستسلم أمام الضغوط، بل تعتمد على إمكاناتها الداخلية لمواصلة مسيرتها في التنمية والتقدم.
لقد أصبح هذا الخيار الواعي مبدأ ثابتًا: إيران لا تشتري أمنها، بل تصنعه. لسنا بحاجة إلى الاعتماد على الآخرين لحمايتنا، بل ندافع عن أنفسنا من خلال المعرفة والقوة والقدرات الوطنية.
لقد أظهرت التجارب التاريخية أن الدول التي اعتمدت أمنها على التبعية للآخرين أصبحت ضحية لتغيير أولويات القوى الداعمة لها في اللحظات الحساسة. يمكن ملاحظة أمثلة عديدة لذلك في جميع أنحاء العالم؛ حيث قامت حكومات بتنسيق سياساتها على أمل ضمانات أمنية من القوى الكبرى، لكنها في النهاية تُركت وحيدة في أوقات التحديات الكبيرة. لكن إيران تعلمت جيدًا هذا الدرس التاريخي. فالإستقلال ليس مجرد شعار، بل ضرورة لا مفر منها.
هذه الرؤية هي التي جعلت إيران في سياستها الخارجية لا تعول على الوعود الخارجية، ولا تتزعزع أمام تهديدات أعدائها.
بينما ربط العديد من الفاعلين الدوليين أمنهم برابطات هشة ومؤقتة، اختارت إيران مسارًا مختلفًا: مسارًا يعتمد على التوكل على القدرات الداخلية، والتقدم المستقل، والمقاومة أمام الضغوط الخارجية. لا تحتاج إيران إلى الحصول على شرعيتها من تأكيد الآخرين، لأن شرعيتها تنبع من إرادة الشعب والسياسات المستقلة التي تنتهجها.
لقد اختارت إيران منذ سنوات طويلة مسارها الخاص، مسارًا لا يعتمد فيه على الدعم المشروط من القوى العالمية، ولا على الوعود الدبلوماسية الهشة، ولا على التهديدات الخارجية في اتخاذ القرارات. ما يهم إيران هو الحفاظ على الاستقلال، وتعزيز القوة الداخلية، والتحرك في مسار ينبثق من المصالح الوطنية. في عالم تتصارع فيه القوى الكبرى يومًا بعد يوم في مشاجرات وتنافسات غير مستقرة، أثبتت إيران من خلال استقرار سياساتها أن الاعتماد على الآخرين ليس فقط خطرًا، بل هو خطأ استراتيجي.
هذا هو نفس الدرس الذي علمتنا إياه التاريخ مرارا وتكرارا، ونحن لم نحفظه فحسب، بل سننقله أيضًا إلى الأجيال القادمة.