بقلم: الشيخ الطاهر بدوي
وأما ما يتعلق بشعبان فقد روى عن أمامة الباهلي رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إذا دخل شعبان، فطهروا أنفسكم وأحسنوا نيتكم “.. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان أكثر صيامه في شعبان “. وفي النسائي من حديث أسامة رضي الله عنه قالت يا رسول الله لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان قال: “ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال لرب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”.
روى الديلمي بسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ خمس ليال لا ترد فيها دعوة: أول ليلة من رجب وليلة النصف الثاني من شعبان وليلة الجمعة وليلتا العيدين“.
*فليلة النصف من شعبان ليلة العتق من النار إلا لمن أصر على معصية العزيز الجبار فهي ليلة الشفاعة وليلة المغفرة ، ورضوان الله الأكبر… فقد روى بن إسحاق عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل عائشة رضي الله عنها في حاجة، فقلت لها أسرعي فإني تركت النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن ليلة النصف من شعبان، فقالت: يا أُنيس أجلس حتى أحدثك بحديث ليلة النصف من شعبان، تلك الليلة كانت ليلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ودخل معي في لحافي فانتبهت من الليل فلم أجده، فقلت: لعله ذهب إلى جاريته القبطية، فخرجت فمررت في المسجد فوقعت رجلي عليه، وهو يقول: “سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي وهذه يدي وما جنيت بها على نفسي، يا عظيما يرجى لكل عظيم، أغفر الذنب العظيم، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره”، ثم رفع رأسه فقال: ” اللهم أرزقني قلبا تقيا نقيا من الشرك بريا، لا كافرا ولا شقيا”، ثم عاد ساجدا فسمعته يقول: “أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، أقول كما قال أخي داود: أعفر وجهي في التراب لسيدي وحق لوجه سيدي أن يعفر”، ثم رفع رأسه فقلت: بأبي أنت وأمي، أنت في واد وأنا في واد، فقال: “يا حميراء أما تعلمين أن هذه الليلة ليلة النصف من شعبان؟ إن لله عز وجل في هذه الليلة عتقاء من النار بعدد شعر غنم بني كلب إلا ستة نفر: لا مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا مُصِر على زنا، ولا مساوم، ولا مضرب ولا قتات (نمام) وفي رواية مصور بدل مضرب“.
عن حادث تحويل القبلة
لقد اختلف العلماء في وقت تحويل القبلة بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فقيل حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا كما في البخاري وأخرجه الدار قطني عن البراء رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم علم الله هوى نبيه فنزلت “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره“(البقرة/144). ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحي بن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق وذلك في رجب من سنة اثنتين للهجرة. وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء وذلك أن قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة كان يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان[1].
لقد اختلف العلماء في كيفية استقباله عليه الصلاة والسلام بيت المقدس على ثلاثة أقوال كما جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي رحمه الله. الأول: كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام عن رأي واجتهاد قاله عكرمة وأبو العالية. الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام كان مخيرا بين بيت المقدس وبين الكعبة المشرفة فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم قاله الطبراني وقال الزجاج: كان ذلك امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة. الثالث: وهو الذي عليه الجمهور وهو رأي ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الأئمة أن استقبال بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ووحيه لا محالة ثم نسخ الله ذلك وأمره الله تعالى أن يستقبل بصلاته الكعبة واستدلوا بقوله تعالى: ” وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه“(البقرة /143).
ومن الملاحظ أن السياق القرآني يشير إلى أن القبلة الأولى كانت إلى البيت المقدس وذلك بلفظ “القبلة التي كنت عليها” ولهذا تأتي البشارة في محلها من الحكيم الخبير.. قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم بعد حادثة التحويل: “وما كان الله ليضيع إيمانكم“.. حيث بشرهم سبحانه وتعالى أنه جل في علاه لا يضيع في نبيه الكريم ولا لأصحابه الأعلام ثواب الصلوات التي قد أدوها وهم مستقبلي الأقصى المبارك لأنهم أدوها كاملة إما بطريقة اجتهاد نبوي وإما بتوجيه إلهي كما سبق ذكره.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طرق صحاح كما جاء في سيرة ابن هشـام رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليـه وسلم كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فلما كان عليه الصلاة والسلام يتحرى القبلتين جميعا لم يبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة قال الله تعالى له في الآية الناسخة: “ومن حيث خرجت فولي وجهك شطر المسجد الحرام”(البقرة/150) أي من أي جهة جئت إلى الصلاة وخرجت إليها فاستقبل الكعبة، كنت مستديرا لبيت المقدس أولم تكن لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه. وتدبر قوله تعالى: “ومن حيث خرجت فول وجهك..“ وقال لأمته وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ولم يقل حيثما خرجتم وذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين فكان يخرج إليهم إلى كل صلاة ليصلي بهم وكان ذلك واجبا عليه إذ كان عليه الصلاة والسلام الإمام المقتدى به فأفاد ذكر الخروج في خاصته في هذا المعنى ولم يكن حكم غيره هكذا يقتضي الخروج ولا سيما النساء ومن لا جماعة عليه.
وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات لأن المنكرين بتحويل القبلة كانوا ثلاث أصناف من الناس: اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم، وأهل الريب والنفاق أشتد إنكارهم له أنه كان أول نسخ نزل، وكفار قريش قالوا: ندم محمد على فراق ديننا فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وفارق قبلة إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود فقال الله تعالى له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: “لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم“(البقرة/150)… أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. قال سبحـانه: “الحق من ربك فلا تكن من الممترين“(آل عمران/60). من الذين شكوا قبلك فلا تمتري في ذلك وقال: “وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم“(البقرة/144). وقال تعالى: “وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون” (البقرة/146). أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وروى أبو داود أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة فقال أبو العالية: إن موسى عليه السلام كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام فكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه، وقال اليهودي، بيني وبينك مسجد صالح النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو العالية فإني صليت في مسجد نبي الله صالح وقبلته الكعبة. وأخبر أبو العالية أنه رأى مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة المشرفة.
لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها الآية “وما جعلنا القبلة التي كُنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله“(البقرة/143). فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم. فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه فترة إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية.
حتى إذا استسلم المسلمون واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة الإسلام: حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة الإسلامية التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربّه أن يبعث في بنيه رسولا منهم بالإسلام الذي كان عليه هو وأبناؤه من بعده.
فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى الذي يتجه إليه اليهود والنصارى فقد كان ذلك لحكمة بيّنها في ما سبق فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم عليه السلام لتحضى الأمة الإسلامية بكل خصائص الوراثة حسا ومعنى، وراثة الدين، وراثة القبلة، وراثة الفضل من الله جميعاً[2].
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام. بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكر الاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سنى استقبال بيت المقدس..
وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكن لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل وتقع على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون يستقبلون الشرق.. فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معيّنة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح[3] المتعددة في الكنيسة الواحدة. فالقبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة بل هي رمز يميز شخصية الأمة الإسلامية ووحدتها ويميز هدفها واهتماماتها ويميز كيانها.. فهل هي الآن مستعدة لإدراك هذه المعاني وتطبيق مفهوم هذا الاتجاه ؟؟؟ وإلى أي جهة تستقبل الأمة الإسلامية الآن ؟؟؟ أُرى إلى قبلة !!
ألم يأن للأمة الإسلامية أن تحول قبلتها وتحارب عدوها الذي يغزوها في عقر دارها، يغزوها في عقيدتها وسلوكها، يغزوها فيشتت صفوفها ويجعل أبناءها كالوحوش الضارية يقتل بعضهم بعضا؟؟ فأين هي من الإسلام؟؟ فالإسلام يدعو البشرية كلها إلى الوحدة في الله لا تعصبا منه بل للخير والحق والصلاح… فالمسلمون هم الغالبون وهم الأعلون وهم الأمة الوسط وهم خير أمة أخرجت للناس.. ولكن المسلمون اليوم في شتات تائهين ولا حول ولا قوة إلا بالله !!!
إن الإعجاز القرآني يتجلى في أن توجيهاته الكريمة والأسس التي جاء بها القرآن لكي ينشئ الجماعة المسلمة الأولى، هي، هي، ما تزال التوجيهات والأسس الضرورية لقيام الجماعة المسلمة في كل زمان ومكان. وأن المعركة التي خاضها القرآن ضد أعدائها هي ذاتها المعركة التي يمكن أن تخوضها في كل زمان ومكان. لا بل إن أعداءها التقليديين الذين كانوا يواجههم القرآن ويواجه دسائسهم وكيدهم ومكرهم، هم، هم، ووسائلهم، هي، هي، تتغير أشكالها بتغير الملابسات وتبقى حقيقتها وطبيعتها، وتحتاج الأمة المسلمة، في كفاحها وتوقيها إلى توجيهات هذا القرآن، حاجة الجماعة المسلمة الأولى، كما تحتاج في بناء تصورها الصحيح وإدراك موقفها من الكون والناس إلى ذات النصوص وذات التوجيهات، وتجد فيها معالم طريقها واضحة، كما لا تجدها في أي مصدر آخر من مصادر المعرفة والتوجيه.
ويظل القرآن كتاب هذه الأمة العامل في حياتها، وقائدها الحقيقي في طريقها الواقعي، ودستورها الشامل الكامل، الذي تستمد منه منهج الحياة ونظام المجتمع وقواعد التعامل الدولي والسلوك الأخلاقي والعملي.. وهذا هو الإعجاز !!
[1] – أنظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي.
راجع ظلال القرآن للسيد قطب رحمه الله “سورة البقرة”.- [2]
[3] – مذابح الكنيسة: هي المواضع التي يقيم عليها الكهنة القداس الإلهي وتذبح الذبيحة غير الدموية..
أنظر تفسير القرآن (التحرير والتنوير) للإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله.