أ / متى يجب صيام رمضان :
الصوم لغة الإمساك و الكف عن الشيء، يقال : صام عن الكلام أي أمسك عنه. قال تعالى إخبارا عن سيدتنا مريم العذراء عليها السلام :” فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا” ( مريم / 26 ) وقال العرب صام النهار إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة، وقال الشاعر :
خيل صيام و خيل غير صائمة تحت العجاج و أخرى تعلك اللجما
وأراد بالصائمة الممسكة عن الصهيل.
وشرعا هو الإمساك عن المفطرات بنية العبادة لله وحده من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. أي أن الصوم امتناع فعلي عن شهوتي البطن و الفرج و عن كل شيء حسي يدخل الجوف من دواء و نحوه في زمن معين وهو مـن طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، مـن كـل مسلم مكلف ( بالغ عاقل) قادر على صومه، لا على عاجز عنه حقيقة بمرض أو حكما كمرضع لها قدرة عليه ولكن خافت على الرضيع هلاكا أو شدة ضرر، حاضر، لا على مسافر سفر قصر، خالية من حيض و نفاس.
وزمن الصوم كما سبق من طلوع الفجر إلى غروب الشمس و يؤخذ في البلاد التي يتساوى الليل و النهار فيها، أو في حالة طول النهار أحيانا كبلغاريا ورورسيا بتقدير وقت الصوم بحسب أقرب البلاد منها. قال تعالى :” وكلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل”. قال ابن جرير بإسناده عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يغرنكم نداء بلال و هذا البياض، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر. ثم رواه من حديث شعبة و غيره. عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :” لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال و لا الفجر المستطيل، و لكنه الفجر المستطير في الأفق”. و الفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل. و كان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما يؤذنان الأول لتنبيه النائم و الثاني للإمساك عن المفطرات و إعلان وقت الصلاة المكتوبة. قال ابن عبد البر في قول النبي الكريم : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا و اشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم. دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح و أن السحور لا يكون إلا قبل الفجر بالإجماع.
يجب صيام رمضان بكمال شعبان ثلاثين يوما أو برؤية عدلين وأولى أكثر أو برؤية جماعة مستفيضة، ويعم الصوم سائر البلاد و الأقطار ولو بعدت. و لا يثبت الهلال بقول منجم أي مؤقت يعرف سير القمر، لا في حق نفسه و لا غيره لأن الشارع الحكيم أناط الصوم و الفطر و الحج برؤية الهلال لا بوجوده إن فُرض صحة قوله، ومن رأى هلال رمضان منفردا وجب عليه صومه بخلاف هلال شوال فلا يجوز له الإفطار برؤيته لئلا يتهم بأنه ادعى ذلك كذبا ليفطر. وان غيمت السماء ليلة الثلاثين ولم ير الهلال فصبيحته يوم شك. وأما لو كانت السماء مصحية لم يكن يوم شك لأنه إذا لم تثبت رؤيته، كان من شعبان جزما. قال عليه الصلاة و السلام :” فإن غم عليكم فاقدروا له”. أي كملوا عدة ما قبله ثلاثين يوما.
ب / الصوم جوهر الاستعاذة بالله :
فالصوم طاعة لله تعالى يثاب عليها المؤمن ثوابا مفتوحا لا حدود له، لأنه لله سبحانه، و كرم الله واسع وينال بها رضوان الله جل علاه و استحقاق دخول الجنان. روى البخاري و مسلم و النسائي والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد. و يبعد المؤمن بالصوم الخالص نفسه عن عذاب الله و سخطه بسبب ما قد يرتكبه من معاص و ذنوب، فهو كفارة لجميع السيئات من عام لآخر إلا المظالم وما شابهها فإنها حق العباد و لا تكفر إلا بأدائها كاملة لأهلها.
و بالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق الذي شرعه الله عز وجل لأن الصوم يحقق التقوى التي هي امتثال الأوامر الإلهية و اجتناب النواهي. قال جل ذكره في سورة البقرة : ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر و على الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيرا فهو خيره وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون “. ( 183-184-185 ).
ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، و للقوامة به على البشرية، و للشهادة على الناس. فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة و مجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد. كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع. وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات و الأشواك و الذي تتناثر على جوانبه الرغائب و الشهوات و الذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات. وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وضائف الأبدان و طهارة النفوس و تقارب الأشقاء و توحيد الصفوف ومحاربة الدخلاء و آثار أخرى قد يجهلها الإنسان و لا يعلمها إلا الله عز وجل.
إن الله تعالى يعلم بعلمه الأزلي القديم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون و دفع واستجاشة لتنهض به و تستجيب له، مهما يكن فيه من حكمة و نفع حتى تقتنع به و تراض عليه. ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة ثم يقرر لهم بعد ندائهم ذلك النداء أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين و أن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى و الشفافية و الحساسية و الخشية من الله سبحانه. أجل إنها التقوى، الغاية الكبيرة من الصوم… فهي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، و إيثارا لرضاه. و التقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال. و المخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله تعالى، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئا يتجهون إليه عن طريق الصيــام
” لعلكم تتقون “.
و الصوم مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة فهو جهاد للنفس و مقاومة للأهواء و نزغات الشيطان التي قد تلوح له وهو سر الاستعاذة بالله و جوهرها قال جل ذكره في سورة فصلت : ” وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم” ( 36 ). و في سورة النحل يخبرنا جل ذكره أن الشيطان مهما قوى كيده لا يؤثر على أهل الله الصادقين : ” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه و الذين هم به مشركون “ ( 98-99-100 ).
والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله، و تطهير له من الوسوسة، واتجاه بالمشاعر إلى الله عز وجل خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس و الشر الذي يمثله الشيطان. فالذين يتوجهون إلى الله وحده، و يخلصون قلوبهم لله، لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم ، مهما وسوس لهم فإن صلتهم بالله تعصمهم أن ينساقوا معه ، و ينقادوا إليه، و قد يخطئون، لكنهم لا يستسلمون، فيطردون الشيطان عنهم و يتوبون إلى ربهم من قريب : ” إنما سلطانه على الذين يتولونه “، أولئك الذين يجعلونه وليهم و يستسلمون له بشهواتهم و نزواتهم ومنهم من يشرك به. هؤلاء يحبون الشيطان و لا يحبهم، بل يخيفهم و يريهم سبل الهلاك و الدمار و يحثهم على تخريب بيوت عقيدتهم بأيديهم و إرادتهم مع أنهم يحبونه و يبذلون في سبيل إرضائه كل غال و نفيس… قال تعالى في سورة آل عمران : ” إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين” ( 175 ).
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أولئائه، ويلبسهم لباس القوة و القدرة و يوقع في القلوب أنهم ذوو حول و طول، و أنهم يملكون النفع و الضر، ذاك ليقضي بهم لباناته و أغراضه، و ليحقق بهم الشر في الأرض و الفساد، و ليخضع لهم الرقاب و يطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانقضاض عليهم، و دفعهم عن الشر و الفساد.
و الشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل و أن يتضخم الشر، و أن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا، لا تقف في وجهه معارضة، و لا يصمده مدافع، و لا يغلبه من المعارضين غالب. الشيطان صاحب مصلحة فتحت ستار الخوف و الرهبة، و في ظل الإرهاب و البطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه، يقلبون المعروف منكرا، و المنكر معروفا، وينشرون الفساد و الباطل و الضلال، باسم القيم الدينية و الحقوق الإنسانية و مبادئ العدالة الاجتماعية، و في الحقيقة يخفتون صوت الحق و الرشد والعدل و يقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر و تقتل الخير تحت قناع الحرية و المساواة و الديمقراطية وما إلى ذلك من الشعارات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ومطاردتهم و طردهم من مقام القيادة، بل دون أن يجرؤوا على تزييف الباطل الذي يُروِّجون له، و جلاء الحق الذي يطمسونه، و الشيطان ماكر خادع يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته، ومن هنا يكشفه الله سبحانه، و يوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده و مكره، و يعرف المؤمنين الحقيقة : حقيقة مكره ووسوسته ليكونوا منها على حذر فلا يرهبوا أولياء الشيطان و لا يخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه و يستند إلى قوته، التي تملك النفع و الضر و القوة الوحيدة التي تُخشى و تُخاف، و التي يخشاها المؤمنون بالله وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء فلا تقف لهم قوة في الأرض، لا قوة الشيطان و لا قوة أولياء الشيطان…