عبر أجواء رمضان المبارك: صيام رمضان وفوائده للشيخ الطاهر بدوي

الصوم طاعة لله تعالى يثاب عليها المؤمن ثوابا مفتوحا لا حدود له

رمضان للشيخ الطاهر بدوي I Le Jeune Indépendant عربي
صيام رمضان و فوائده، للشيخ الطاهر بدوي

ج / ـ الصوم يربي النفوس على الحلم و السماحة:

إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله  تعالى في مواجهة إلتواءات النفس البشرية، و جهلها واعتزازها بما ألفت، و استكبارها أن يُقال إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها و على مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء… وكلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض و تصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ… و لا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض أو بسوء الأدب، أوبالتبجح في الإنكار. فهو إنما يتقدم بالحسنة، فهو في المقام الرفيع و غيره يتقدم بالسيئة فهو في المكان الدون. قال تعالى في سورة فصلت : ” ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله و عمل صالحا و قال إنني من المسلمين و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم “ ( 35.34.33 )

وليس له أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة و الصبر والتسامح و الاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء و الثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء و من الجماح إلى اللين. و تصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات و ينقلب الهياج إلى وداعة و الغضب إلى سكينة و التبجح إلى حياء، على كلمة طيبة و نبرة هادئة  وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام، ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجا و غضبا وتبجحا وتمردا، وخلع حياءه نهائيا و أفلت زمامه  و أخذته العزة بالإثم.. كيف قابل الرسول صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة أولئك الذين أخرجوه و أصحابه من ديارهم.. أبالمثل ؟ أم بالحلم و السماحة ؟ كيف يمنح الأمن لمن دخل بيته أو دخل المسجد الحرام أو دخل دار أبي سفيان الذي كان من ألد أعداء الدعوة النبوية ؟ و نتيجة هذه السماحة كانت كما تعلم أن دخل الناس في الإسلام أفواجا وعم الأمن والرخاء على الجميع. و أصبحت قولة رسول الله المشهورة : ” اذهبوا فأنتم الطلقاء ”  بابا لكل النفحات و لكل الفتوحات على الإطلاق.

غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف و يسمح وهو قادر على الإساءة و الرد. وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها، حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيئ ضعفا، و لئن أحس أنه ضعف لم يحترمه ، ولم يكن للحسنة أثرها اطلاقا . وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية،  لا العدوان على العقيدة و فتنة المؤمنين عنها. فأما في هذا فهو الدفع و المقاومة بكل صورة من صورها، أو الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وهذه الدرجة، درجة دفع السيئة بالحسنة، و السماحة التي تستعلى على دفعات الغيظ  و الغضب، و التوازن الذي يعرف متى تكون السماحة  و متى يكون الدفع بالحسنى درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله سبحانه على عباده الذين يحاولون فيستحقون. أجل إنها درجة عالية إلى حد أن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وهو الذي لم يغضب لنفسه قط و إذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد. قيل له، و قيل لكل داعية في شخصه الكريم : ” و إما ينزغنَّك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم” . فالغضب قد ينزغ، وقد يلقى في الروع قلة الصبر على الإساءة أو ضيق الصدر على السماحة.

فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية، تدفع محاولاته لاستغلال الغضب و النفاذ من ثغرته.

إنه طريق شاق، طريق السير في مسارب النفس و دروبها و أشواكها و شعابها، حتى يبلغ الداعية منها موضع التوجيه و نقطة القياد، إنه طريق الصائمين حقا، الكاضمين الغيظ و العافين عن الناس… فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال في حديث أخرجه الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قال الله عز وجل  :” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به. و الصيام جُنة  ( وقاية ) فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ( لا يفحش ) و لا يصخب ( لا يصيح ) فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم. و الذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره و إذا لقى ربه فرح بصومه “.

ومما يستفاد من هذا الحديث النبوي الشريف أن كظم الغيظ يحتاج إلى إرادة صلبة و عزيمة قوية و شخصية تتحكم في عواطفها و مشاعرها و انفعالاتها، فلا يستبد بها الغضب و لا يسيطر عليها الهوى الجامح، فيدفعها إلى الانتقام و التشفي أو إلى ارتكاب ملا يحسن بالرجل الحكيم الوقور. ولذلك قال سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” ليس الشديد بالصُّرَعَة، و إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب “. و في رواية قال عليه الصلاة و السلام : ” ما تعدون الصُّرَعَة فيكم ؟ قالوا الذي لا يصرعه الرجال. قال : ليس بذالك، و لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب “.

و لقد عنيت السنة المطهرة عناية واضحة بفضيلة كظم الغيظ الذي نتعلمه من الصيام و على أيدي الرجال، رجاله الصادقين، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي الحور العين شاء” .وجاء فيه :

” من كظم غيضا و لو شاء أن يمضيه لأمضاه ، ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا “.

و الغضب هو العامل المفسد لكظم الغيظ. فمن استجاب لداعي الغضب لم يستطع أن يكظم غيظه و لذلك يُروى أن رجلا رحل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال له : علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” لا تغضب “، فكرر الرجل قوله مرارا، و في كل مرة يقول له النبي الكريم : ” لا تغضب “. قال العلماء : إن الغضب فوران دم القلب لإرادة الانتقام، و هذا شيء فطري في الإنسان، و لا يستطيع التخلص منه بالكلية… و لكن المأمول من الرجل صاحب الأخلاق الفاضلة أن يتجنب أولا أسباب الغضب ما استطاع إلى ذلك سبيلا و أن لا يطيع الشيطان فيما يوسوس له من الاستجابة لداعي الغضب، فلا يتهور و لا يتجبر و لا يندفع. وهذا خلق من أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و خلق رجال الله الكاملين لأن الحلم شيمة من شيمهم الأساسية. و الحليم لا يرتضي لنفسه التهور أو الاندفاع عند ثوران الغضب، نعم تراه يعفو عند المقدرة و يصفح عند الإساءة بل يدفع بالتي هي أحسن ، لا يجهل مع الجاهل ، عبد من عباد الرحمن الذين مدحهم ربهم من عليائه بقوله : ” و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ” ( الفرقان /63 )  هؤلاء هم في جدهم ووقارهم و قصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى و سفه السفهاء، و لا يشغلون بالهم ووقتهم و جهدهم بالاشتباك مع السفهاء و الحمقى في جدل أو عراك،يترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين… ” قالوا سلاما “، لا عن ضعف و لكن عن ترفع ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت و الجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم و أكرم و أرفع.

و قد يشتبه الحلم بكظم الغيظ مع أن هناك فرقا بينهما كما أشار إلى ذلك الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه، فكظم الغيظ هو التحلم أي تكلف الحلم وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة لما في الكظم من كتمان و مقاومة واحتمال، وأما الحلم فهو فضيلة أو خلق يصبح كالطبيعة، وهو دلالة كمال العقل و استيلائه على صاحبه، وانكسار قوة الغضب عنده، و خضوعها للعقل. ولكن هناك ارتباط بين الحلم و كظم الغيظ، لأن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم وهو كظم الغيظ ومن هنا ورد قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” العلم بالتعلم و الحلم بالتحلم “. و كفى الحلم شرفا أن جعله عليه الصلاة و السلام أحد أسباب ثلاثة يبتغي بها الإنسان الرفعة عند الله تعالى وهي وصل من قطعك و إعطاء من حرمك والحلم عمن جهل عليك…