ومن روائع حلمه صلى الله عليه و سلم أن رجلا كافرا دنا من النبي صلى الله عليه و سلم و هو نائم و رفع الرجل السيف فوق النبي صلى الله عليه و سلم فانتبه عليه الصلاة و السلام فقال له الرجل :
ما يمنعك مني ؟ ” فقال الرسول الحليم بكل ثبات وطمأنينة : ” الله “ فارتعد الرجل و سقط السيف من يده فأخذه النبي و قال له : ” من يمنعك مني ؟؟ فقال الرجل في ضعف : ” كن خير آخذ. فقال النبي الكريم :
” قل أشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله “. فقال الرجل : لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون معك، ولا أكـون مع قوم يقاتلونك. فعفا النبي صلى الله عليه و سلم عنه وأطلق سبيله، فعاد الرجل إلى قومه يقول لهم : جئتكم من عند خير الناس.
ولقد عرف الحكماء منذ أقدم الأزمان مكانة الحلم و فضله، فقالوا فيه كثيرا و هذا لقمان الحكيم يقول : ” ثلاث من كن فيه فقد أستكمل الإيمان : من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، و إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، و إذا قدر لم يتناول ما ليس له.”
ولعل أوضح ثمرات الحلم هو تجنب الظلم و لو قل، و التباعد عن الاستجابة لهوى النفس الغاضبة، و لقد روي عن خامس الراشدين الأمير الحاكم العادل سيدنا عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه أنهم جاؤوا إليه برجل قد أرتكب خطأ، وكان رضي الله عنه غاضبا، فقال له عمر : لولا أني غضبان لعاقبتك ، وكان هذا الإمام إذا أراد معاقبة رجل حبسه ثلاثة أيام فإن أراد بعد ذلك أن يعاقبه عاقبه، كراهة أن يعجل عليه في أول غضبه. وليس الحلم رضى بالذل أو تقبلا للهوان، و إنما هو ترفع عن الاستجابة للنزوة أو التأثر بالوسوسة أو مقابلة السوء بمثله إلا إذا كان دفاعا عن الحق و أهله فالغضب هنا فضيلة ممدوحة و خلق كريم و صفة أهل الكمال من الفعال. و إلى ذلك يشير الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله حين قال : ” إنه لا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة، و لا مقابلة التجسس بالتجسس، و لا السب بالسب، و كذلك سائر المعاصي و إنما الجائز هو القصاص على ما ورد به الشرع “.
وفي حقل الطاعات يتسابق العاملون وما يفوز بالجوائز و البشارات إلا المخلصون المتقون الذين يتخرجون في كل عصر و في كل مصر أفواجا من مدارس الصيام، صيام مراقبة الله و خشيته، صيام التضحية بالنفس و النفيس، صيام الذين ينفعون عيال الله بما أوتوا من نعم، صيام الذين يحبهم ربهم ويحبونه، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون فيه لومة لائم… قال تعالى عن هؤلاء الملوك الربانيين في سورة آل عمران : ” سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و نعم أجر العاملين ” ( 133 – 136 ) هؤلاء هم السادات والسلاطين و الأمراء و على حد تعبير شيخنا سيدي أبي مدين الغوث رضي الله عنه وهؤلاء هم الملوك كما وصفهم شيخنا سيدي بن عليوى رحمه الله بقوله في لاميته :
فنحن ملوك الأرض من حيث قربه بذلنا نفوسا في حبه ثم الأهلا
فهم ثابتون على البذل، ماضون على النهج، لا تغيرهم السراء ولا الضراء : السراء لا تبطرهم فتلهيهم، والضراء لا تفجرهم فتنسيهم، إنما هو الشعور بالواجب في كل حال، و التحرر من الشح و الحرص ومراقبة الله و تقواه… وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها، المحبة للمال بفطرتها، ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال إلا دافع أقوى من شهوة المال، و ربقة الحرص، و ثقلة الشح، دافع التقوى، ذلك الشعور اللطيف العميق، الذي تشف به الروح و تخلص، و تنطلق من القيود و الأغلال.
ومن صفات هؤلاء الرجال أنهم الكاظمون الغيظ و العافون عن الناس… كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل بنفس البواعث و نفس المؤثرات. فالغيظ كما قلنا انفعال بشري تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم، فهو إحدى دفعات التكوين البشري، وإحدى ضروراته، و ما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى، و إلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى و أوسع من آفاق الذات و الضرورات.
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى وهي وحدها لا تكفي فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد و يضطغن، فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة، ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين، و إن الغيظ و الغضب لأنظف و أطهر من الحقد و الضغن، لذلك يستمر النص الشريف ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين، إنها العفو و السماحة و الانطلاق… فالذين يجودون بالمال في السراء و الضراء محسنون، و الذين يجودون بالعفو و السماحة بعد الغيظ والكظم محسنون ” و الله يحب المحسنين “.
ومن حب الله للإحسان و للمحسنين، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه، و تنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب، فليس هو مجرد التعبير الموحي لكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير.
و الجماعة التي يحبها الله و تحب الله و التي تشيع فيها السماحة و اليسر و الطلاقة من الإحَن والأضغان هي جماعة متضامنة و جماعة متآخية، و جماعة قوية. ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان و المعركة في الحياة على السواء في هذا السياق. وصفة أخرى لهؤلاء الرجال : يذكرون ربهم ويستغفرونه لأدنى هفوة ” ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون “.