إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم و الدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة و تدفعه نزواته و شهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع، يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه، حين يرتكب الفاحشة المعصية الكبيرة، و حسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ و أن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، و أن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل ، و أنه يعرف أنه عبد يخطئ و أن له ربا يغفر.. و إذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير، إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، مستمسك بالعروة الوثقى لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر. فهو واصل في النهاية مادامت الشعلة معه و الحبل في يده، مادام يذكر الله و لا ينساه، و يستغفره و يقر بالعبودية له و لا يتبجح بمعصيته.
وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة، و بجانب الثقلة رفرفة، و بجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية… فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، مادام يذكر الله و لا ينساه و لا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة و الرسول صلى الله عليه و سلم يقول في حديث أخرجه أبو داود و الترمذي و البزار عن عثمان بن واقد رضي الله عنه : ” ما أصر من أستغفر و إن عاد في اليوم سبعين مرة “.
و الإسلام لا يدعو بهذا إلى الترخص، و لا يمجد العاثر الهابط و لا يهتف له بجمال المستنقع كما تهتف ” الواقعية ” إنما يقيل عثرة الضعف ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء. فالمغفرة من الله تعالى، ومن يغفر الذنوب إلا الله جل علاه ؟ تخجل و لا تطمع، وتثير الاستغفار و لا تثير الاستهتار… فأما الذين يستهترون و يصرون فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأبواب.
فالانتصار على الشح و الانتصار على الغيظ و الانتصار على الخطيئة و الرجعة إلى الله و طلب مغفرته و رضاه كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة، وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح و الهوى و الخطيئة و التبجح، وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يخضعون ذواتهم و شهواتهم و نظام حياتهم لله ومنهجه و شريعته. ففي هذا تكون العداوة، وفي هذا تكون المعركة و في هذا يكون الجهاد وليس هنالك أسباب أخرى يعادى فيها المسلم ويعارك ويجاهد، فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهد لله جل علاه…
د / ـ الصوم ربع الإيمان و الصبر نصفه :
للصوم ثلاث مراتب : صوم العموم وصوم الخصوص، و صوم خصوص الخصوص. فأما صوم العموم فهو كف البطن و الفرج عن قضاء الشهوة. و أما صوم الخصوص فهو كف النظر و اللسان و اليد و الرجل و السمع و البصر و سائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص : فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، و الأفكار المبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية.
ومن آداب صوم الخصوص غض البصر و حفظ اللسان عما يؤذي من كلام محرم أو مكروه أو ما لا يفيد، و حراسة باقي الجوارح، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث أخرجه الإمام البخاري رحمه الله : ” من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه “.
و الصوم يسمى صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام و الشراب و الشهوة، و يسمى رمضان شهر الصبر لأنه شهر الصوم ” و المصابرة ” هي مطاولة الغير في الصبر و التصبر : هو تكلف الصبر والإصطبار زيادة الاحتمال في مجال الصبر، قال تعالى في سورة مريم : ” فاعبده و اصطبر لعبادته “ وفي سورة طه : ” وأمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها ”
و الصبر فضيلة و خلق كريم تتعدد مجالاته، فهناك صبر على الطاعة أي استمساك بأدائها وصبر على المعصية أي حرص موصول على تجنبها، و صبر على الابتلاء، أي حسن احتمال له، فلا بد للمؤمن من صبر على أداء الواجب، وصبر عن الآثام و الخطايا. و صبر بحفظ اللسان عن الخنا و الفحش، وصبر بحرص اللسان على النطق بكلمة الحق حينما تجب، وصبر بصيانة القلب والعقل من خواطر السوء، وصبر بحفظ الجوارح و الأعضاء من سوء الاستخدام، وصبر عند الشدائد و النوازل وصبر في مواطن الجهاد و النضال بالإقدام و الثبات و عدم الفرار أو التولي يوم الزحف قال عز وجل في سورة الأنفال : ” ياأيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم و بيس المصير” (16.15 ) والمعنى أنه إذا واجهتم الذين كفروا ” زحفا ” أي متدانين متقاربين متواجهين، فلا تفروا منهم إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب، حيث تختارون موقعا أحسن، أو تدبرون خطة أحكم، أو أن يكون ذلك انضماما إلى فئة أخرى من المسلمين، أو إلى قواعد المسلمين، لتعاودوا القتال، و أن من تولى وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب : غضبا من الله ومأواه جهنم .
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصا بأهل بدر، أو بالقتال الذي يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم حاضره، ولكن الجمهور على أنه عامة و أن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات كما روى البخاري و مسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله، ” وما هن ” ؟ قال : ” الشرك بالله، و السحر، و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، و أكل الربا وأكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات “.
وكثير من الناس يظنون أو يزعمون أن الصبر خلق سلبي، و أن معناه الاستسلام و الرضى بالواقع و الكف عن معالجة الأمور و الاحتيال للخروج من الشدائد و الأزمات وهذا فهم خاطئ ووهم فاسد، لأن الصبر كما يكون جهدا نفسيا للتأبى على المعاصي و الابتعاد عن السيئات، يكون في كثير من الأحيان جهدا عمليا إيجابيا، فيه حركة، و فيه سعي، و فيه إنتاج وفيه تحمل للتبعات و تعرض لجلائل الأعمال ومواقف الأبطال، وقد فهم ذلك البصراء من أعلام هذه الأمة المجيدة، حتى في المجال الصوفي الذي يقال عنه جهلا أو حسدا أنه يميل إلى السلبية و الرضى بالواقع، ففي الأدب الصوفي جاء قولهم :
” الصبر تعويد النفس الهجوم على المكاره “، وقولهم أيضا : ” تجرع الصبر ( احتمله ) فإن قتلك قتلك شهيدا، و إن أحياك أحياك عزيزا ”
و الصبر لا يناقض الإحساس بالألم لأنه أمر طبيعي و فطري في الإنسان ليس معيبا و إنما المعيب هو الخضوع لهذا الإحساس و الرضا به، أو الاستجابة لداعيه الذي يغرق صاحبه في الجزع والهوان. فاللائق بصاحب الصبر الصائم الصادق أن يحاول كي يجعل صبره صبرا جميلا لا شكوى معه و إن كان هناك شعور بالألم…
و الصبر كما يحدثنا عنه القرآن الكريم هو صفة الأنبياء و المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين وهو أيضا خلق أهل العزيمة القوية و أصحاب الإرادة الماضية الذين يعرفون الخير، ويعزمون عليه، و يمضون فيه لا ينثنون عنه مهما كلفهم من تعب أو مشقة، ومن هنا جعل القرآن الصبر من ” عزم الأمور “. والعزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر وهو أيضا المحافظة على ما يؤمر به الإنسان، وقيل : إن عزم الأمور هو محكم الأمور… قال جل علاه في سورة الشورى : ” ولمن صبر و غفر إن ذلك من عزم الأمور ” ( 43 ) وقال في سورة آل عمران : ” إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور “
( 186 ).
ويعلق الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده على مفهوم الصبر قائلا : ” الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال و كظم النفس عليه، مع الروية في دفعه ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركب من أمرين : دفع الجزع ومحاولة طرده ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس، و إنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه، فمن لا يحس لا يسمى صابرا، وإنما هو فاقد الإحساس، يسمى بليدا ، و فرق بين الصبر والبلادة، فالصبر وسط بين الجزع و البلادة وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة، وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلا و تركا عن باعث القلب، وذلك من عزم الأمور أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة و تصح فيها النية و جوبا محتما لا ضعف فيه “.
و الأحاديث النبوية في الصبر كثيرة : عن خباب بن الأرث رضي الله عنه قال في حديث أخرجه البخاري و أبو داود و النسائي : ” شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا : ألا تنتصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : ” قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، و يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه و عظمه ما يصده ذلك عن دينه، و الله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون “.