عبر أجواء رمضان المبارك: صيام رمضان وفوائده للشيخ الطاهر بدوي

الصوم طاعة لله تعالى يثاب عليها المؤمن ثوابا مفتوحا لا حدود له

رمضان للشيخ الطاهر بدوي I Le Jeune Indépendant عربي
صيام رمضان و فوائده، للشيخ الطاهر بدوي

هـ / ـ القيام يعلمنا حفظ الصحة و يربينا على القناعة :

لما كان اعتدال البدن و صحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة، فالرطوبة مادة، و الحرارة تنضجها، و تدفع فضلاتها و تصلحها و تلطفها، و إلا أفسدت البدن ولم يمكن قيامه، وكذلك الرطوبة هي غذاء الحرارة، فلولا الرطوبة، لأحرقت البدن و أيبسته و أفسدته، فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها وقوام البدن بهما جميعا ، وكل منهما مادة للأخرى ، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة، و الرطوبة مادة للحرارة تغذوها و تحملها، ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى، حصل لمزاج البدن الانحراف بحسب ذلك، فالحرارة دائما تحلل الرطوبة، فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة، لضرورة بقائه، وهو الطعام و الشراب، ومتى زاد على مقدار التحلل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته، فاستحالت مواد رديئة، فعاثت في البدن، وأفسدت، فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها و قبول الأعضاء واستعدادها، وهذا كله مستفاد من قوله تعالى في سورة الأعراف (31) :  ” وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين “ . فأرشد سبحانه عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه ، و أن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية و الكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافا، وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض، أعني عدم الأكل و الشرب ضار والإسراف فيهما أضر..

فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب أن البدن دائما في التحلل  و الاستخلاف، وكلما كثر التحلل ضعفت الحرارة لفناء مادتها، فإن كثرة التحلل تفني الرطوبة، وهي مادة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم، ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة ، وتنطفئ الحرارة جملة فيستكمل العبد الأجل الذي كتب الله له أن يصل إليه .

فغاية علاج الإنسان لنفسه و لغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة، لا أنه يستلزم بقاء الحرارة و الرطوبة اللتين بقاء الشباب و الصحة و القوة بهما، فإن هذا لم يحصل لبشر في هذه الدار، وإنما غاية الطبيب أن يحمي الرطوبة عن مفسداتها من العفونة و غيرها، و يحمي الحرارة عن مضعفاتها ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الإنسان، كما أن به قامت السماوات  و الأرض و سائر المخلوقات. إنما قوامها بالعدل. ومن تأمل هدى الرسول الكريم صلى الله عليه  و سلم و جده أفضل هدى على الإطلاق يمكن حفظ الصحة به، فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم و المشرب، و الملبس والمسكن، و الهواء و النوم، و اليقظة، و الحركة و السكون و المنكح، و الإستفراغ و الاحتباس، فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن و البلد و السن و العادة، كان أقرب إلى داوم الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل.

ولما كانت الصحة و العافية من أجَل نعم الله على عبده و أجزل عطاياه و أوفر منحه، بل العافية المطلقة أجل نعم الله على الإطلاق، فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها و حفظها  و حمايتها عما يضادها. و قد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة و الفراغ “.

وفي الترمذي و غيره من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “من أصبح معافى في جسده ، آمنا في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا “.  وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ” أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ونروّك من الماء البارد ؟ “. ومن هاهنا قال من قال من السلف الصالح في قوله تعالى في آخر سورة التكاثر : ” ثم لتسألن يومئذ عن النعيم “. قال عن الصحة. ” لتسألن “ عن كل النعيم بكل أنواعه و ألوانه و أذواقه، من أين نلتموه و فيم أنفقتموه أمن طاعة وفي طاعة ؟ أمن معصية وفي معصية ؟ أمن حلال وفي حلال ؟ أمن حرام وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أديتم ؟ هل شاركتم ؟ هل استأثرتم ؟ نعم ” ولتسألن ”  عما كنتم تتكاثرون به و تتفاخرون من جاه و سلطان و أموال و بنين !… وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للعباس رضي الله عنه : ” ياعباس يا عم رسول الله. سل الله العافية في الدنيا والآخرة “ . وفيه عن سيدنا أبي بكر الصديق رضوان الله عليه قال :  ” سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ” سلوا الله اليقين و المعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خير من العافية “. فجمع بين عافيتي الدين و الدنيا ولايتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين و العافية فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة و المعافاة تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه و بدنه.

وعن علاقة الصوم بصحة الأبدان و النفوس يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” الصيام جنة “ و ” صوموا تصحوا “. مفسرا قوله تعالى ” وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون “. و يؤكد عن هذه العلاقة الفطرية بقوله : “الأزم دواء والمعدة بيت الداء و عودوا كل بدن ما اعتاد “. وقوله أيضا :

” نحن قوم لا نأكل حتى نجوع و إذا أكلنا فلا نشبع “. و الأزم هو الامتناع عن كل ما يضر. ومن هنا جاء الصيام عبادة فيها شفاء للأبدان و للأرواح و النفوس. ففي الصيام راحة للمعدة من عناء العمل ليل نهار طوال العام.. وشهر في العام يعادل يوما كل أثني عشر يوما، وهذه الراحة من عناء العمل المستمر لازمة وضرورية.

ولقد وجد الحكماء و أرباب الاختصاص أن عدد مرضى النزلات المعوية بالذات ومرض القولون يقلون في رمضان عن غيره من الشهور، كما أن فاعلية العقاقير تزيد في شهر رمضان عنه في الشهور الأخرى كذلك، لأن المريض عادة ما يناقض علاجه الطبي عندما يأكل الممنوعات  و يعرض عن المسموحات، و لأن أحب شيء إلى الإنسان ما منع ” وكل ممنوع متبوع “… لكن في رمضان فإن الصيام عن الممنوع و المسموح يعطي فرصة أكبر لمرض المعي الدقيق و الغليظ بالشفاء العاجل : ” قاتل الله الشره ” فإن التخمة تقلل من فعالية العقاقير و تعرقل الشفاء و تؤخر المعافاة.

يقول الدكتور شخاشيري في حكمة الصوم : ” أعلم أن انتفاعك من الطعام القليل الذي تأكله في انتظام يزيد على انتفاعك من الطعام الكثير الذي تأكله في غير انتظام ومن غير بطء في المواعيد “. وحدد الدكتور شخاشيري فوائد الصيام في عدة نواح :

  • – علاج إضطربات الهضم واضطرابات الأمعاء و بالذات المزمنة منها.
  • – كعلاج لزيادة الوزن.
  • – إقلال السكر في الدم و العمل على إخفائه من البول.
  • – التهاب الكلى الحاد المصحوب بتورم وارتشاح تستفيد كثيرا من الصيام.
  • – أمراض القلب المصحوبة بتورم في القدمين و الساقين و تضخم حجرات القلب.
  • – التهاب المفاصل الروماتزمية.

وأعقب على المآثر و الفوائد الناتجة عن الصيام العظيمة الشأن موضحا أن إبعاد الثقة بين النفس و نزواتها يستفيد منه الجسم كثيرا و تنطلق الروح إلى سماء السعادة و الارتقاء.

في خلاصة هذا الفصل نقول : إن الصوم عبادة روحية و بدنية، يعلم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر و العلن، إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده. والصوم يقوي الإرادة ويشحذ العزيمة و يعلم الصبر و يساعد على صفاء الذهن و اتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة إذا تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، و تناسى ما قد يطرأله من عوارض الارتخاء و الفتور أحيانا. قال لقمان الحكيم لأبنه : ” يابني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة و خرست الحكمة و قعدت الأعضاء عن العبادة “.

والصوم يعلم النظام و الانضباط، لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام و الشراب في وقت محدد و موعد معين، وعلى الإمساك في وقت يحرم تجاوزه. و الصوم يشعر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق و المغارب، فهم جميعا يصومون و يفطرون في وقت واحد، لأن ربهم واحد سبحانه  و عبادتهم واحدة…

وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة و الأخوة ، و الشعور برابطة التضامن و التعاون التي تربط المسلمين فيما بينهم ، فيدفعه إحساسه بالجوع و الحاجة مثلا إلى صلة الآخرين، و المساهمة في القضاء على غائلة الفقر و الجوع و المرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع.

و الصوم فعلا يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا و طرح ما شاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، و حمية للجسد، بالتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة، و العفونات أوالرطوبات التي تتركها الأطعمة و الأشربة، قال رسول الله صلى عليه وسلم في حديث رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه : ” صوموا تصحوا “. وقال طبيب العرب الحرث بن كلدة : ” المعدة بيت الداء ، و الحمية رأس كل دواء “.

والصوم جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا و آثامها، وكسر لحدة الشهوة والأهواء فيها ، وتهذيبها و ضبطها في طعامها و شرابها بدليل قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  في حديث رواه الجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه : ” يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء “. و الصوم إذا هو استعلاء على الضرورات و صبر على الحاجات الأولية للحياة و تقرير للإرادة و توكيد لغلبة الإنسان في هذا الكائن البشري على الحيوان.