عميد جامع الجزائر: الضرورة تقتضي عودة دول الساحل إلى مرجعيّتها الدّينية الجامعة

العودة إلى المرجعيّة الدينية الموحّدة الجامعة؛ حتى نوفّر لأبناء المنطقة المناعة الدينية والفكرية اللازمة الّتي تغنيهم عن مرجعيات مضلّلة هدّامة، ترعاها عقول استعماريّة، ومخابر استخباراتية باتت معروفة

20250301 165938 I Le Jeune Indépendant عربي
الشيخ مأمون القاسمي عميد جامع الجزائر

ألقى عميد جامع الجزائر، الشّيخ محمّد المأمون القاسمي الحسنيّ، يوم 27 شعبان 1446هـ، الموافق 26 فيفري 2025م، مداخلة، في ملتقى نظّمته رابطة علماء ودعاة وأئمة دول السّاحل؛ تناول فيها موضوع السّاحل من زاويتيْ الأمن بمختلف أبعاده، والتنمية وأدوارها. واقترح السّيّد العميد نقاطا عمليّة من أجل تحقيق ألقى عميد جامع الجزائر، الشّيخ محمّد المأمون القاسمي الحسنيّ، يوم 27 شعبان 1446هـ، الموافق 26 فيفري 2025م، مداخلة، في ملتقى نظّمته رابطة علماء ودعاة وأئمة دول السّاحل؛ تناول فيها موضوع السّاحل من زاويتيْ الأمن بمختلف أبعاده، والتنمية وأدوارها.

أيّها الحضور الكرام،

تواجه منطقة السّاحل، تحدّيات جمّة تعوق تقدّمها وتطوّرها. فبالرغم من الثروات والإمكانات الهائلة الّتي تزخر بها، مازالت تعاني نزاعات مزمنة، وتطرّفًا عنيفًا، وتدهورًا بيئيًّا، وتحدّيات اقتصادية واجتماعية. البعض يرى في الساحل فضاءً للفقر والتخلف والجهل؛ لكنّ التاريخ يشهد بأنّه كان مهد الحضارة الإنسانية، والحفريّات والآثار تؤكّد ذلك.

لقد كان الساحل الإفريقي ملتقى لبعدين حضاريّين هامّين، تعايشا في تناغم وتعاون لقرون مضت، وشكّلا العهد الذهبي للحضارة الإنسانية، إلى غاية قدوم الاستدمار الهمجي، الذي أحرق الأرض وأهلك الحرث والنسل، واستحلّ خيرات المنطقة؛ بل واستعبد ساكنتها.

الآن، وقد قرّرت منطقة الساحل التحرّر من التدخّل الأجنبي، والعودة إلى تثمين مقوّمات أمنها وتنمية ربوعها، ظهر البعض، من خارج المنطقة ومن داخلها، يسعون لإذكاء نار الفتنة وإيقاع العداوة بين أبنائها. إنّ هذه البلدان أمام فرصة تاريخيّة لتوحيد جهودها، وتحقيق أنموذج مستقلّ لتنمية أوطانها، بعيدًا عن مستغلّي خيراتها وأذنابهم، ووكلائهم ممّن يمهّدون الأرضية لعودة أسيادهم.

يجب أن يوجّه التحوّل الإيجابيّ في المنطقة نحو الطريق الصحيح؛ فالعدوّ ليس بيننا اليوم، وهو معروف لدى العامّ والخاصّ، إنّه ذلك الّذي يحمل همّ المستعمر بالأمس؛ ويتولّى مهمّة إفشال نهضة واعدة. إنّ قوّة الساحل الإفريقي في وحدته، استعدادًا لمواجهة عالم متقلّب، يتّجه إلى العودة من جديد، للهيمنة الاستعمارية، وتقاسم مناطق النفوذ.

لقد عرف الساحل ازدهاره، عندما ارتبطت مصالح الحضارة الإسلامية بالحضارة الإفريقية العريقة؛ وهو ما يجب أن نسعى إليه من جديد، لأنّنا في قارّة واحدة، مصيرنا واحد، وغايتنا واحدة.

حضرات السادة.

إنّ لدينا واجبًا تجاه شعوبنا، من أجل تنمية أوطاننا؛ وذلك بتوطيد التعاون الثنائي، والتعاون متعدّد الأطراف، في برامج محدّدة وعمليّة، لا سيما في المجالات الآتية:

* النهوض بالمنظومات التربوية والجامعية: وتأصيلها، وتحريرها من الأفكار الاستعمارية الهدّامة للفرد والأسرة الإفريقية، والإفادة من تجارب بعضنا البعض، والبحث عن عناصر الإصلاح فيما بيننا.

* محاربة الفقر والجهل: من خلال التعاون في مجال التنمية الريفية، وتحسين الوسط المعيشي للسكان، وترقية المعيشة الأسرية على مختلف الأصعدة.

* التحرّر من التبعية المالية للغير: والإفادة من التجارب الناجحة في مجال السياسات النقدية الوطنية. فبدون التحرّر من المستعمر ماليًا، ستبقى بلداننا عرضة لضغوط، وأسرى إملاءاته.

* ربط بلدان الساحل ببنى قاعدية عصرية: تسمح لشعوبنا بالتواصل الحضاري والاقتصادي، وفي الوقت نفسه تثبيت السكان على مسارات هذه البنى القاعدية التي ستمنح بلداننا إمكانات جديدة، فتفكّ العزلة عن البلدان الحبيسة، من جهة، وعن القرى والمداشر المنتشرة في المناطق المعزولة، من جهة أخرى.

إنّ أعداء المنطقة يحاولون إلهاءنا ليصرفونا عن الأهداف التنموية، بجعلنا نركّز على مواطن الخلاف بيننا، في حين أنّ التغيير الإيجابي في بلداننا يدفعنا إلى توطيد علاقاتنا وتثمين مقوّمات التوافق والعمل المشترك الّذي تكون له انعكاساته الإيجابيّة المثمرة على مستقبل أبنائنا.

ولا مجال لتنمية منطقة الساحل، بدون تحقيق الأمن والاستقرار في بلداننا. نحن ندرك بأنّ شعوبنا في المناطق العابرة للحدود، لها امتدادات عائلية وعشائرية ضاربة في التاريخ.

حدودنا هي مراسم امتداداتنا الإفريقية المشتركة التي يجب أن نعمل لتثبيت الأمن في ربوعها، والتعاون لكشف محاولات التلاعب بها. وقبل أيّ عمل أمنيّ يكون، لا بدّ في رأينا من العمل لتحقيق الآتي:

* العودة إلى المرجعيّة الدينية الموحّدة الجامعة؛ حتى نوفّر لأبناء المنطقة المناعة الدينية والفكرية اللازمة الّتي تغنيهم عن مرجعيات مضلّلة هدّامة، ترعاها عقول استعماريّة، ومخابر استخباراتية باتت معروفة. لقد كنا ومازلنا نعتقد أنّ أكثر الأولويات إلحاحا الحفاظ على وحدتنا الدينية، وقطع الطّريق على المذاهب الوافدة، والنّحل الضّالة، والتّصدّي للتّيارات الدخيلة المفرّقة، ولاسيما التيار التكفيري الذي يتغذّى من إشاعة الفهوم الخاطئة للدين، والتأويلات الباطلة لمقاصد شريعته.

* مواجهة عنف الأفكار وضلال العقول بالعزيمة نفسها الّتي نواجه بها عنف الأبدان، ولن يتأتّى ذلك سوى بالعودة إلى سماحة ثقافاتنا الإفريقيّة المتجذّرة في الضمير الجمعيّ لمجتمعاتنا.

* جعل هواجسنا الأمنية دافعًا لتوحيد سياساتنا وصفوفنا عبر تكافل جهودنا، عوض أن نجعل منها سببًا للفرقة والخلاف، وإثارة النعرات. إنّ ما تشهده المجتمعات الإسلامية في واقعها الراهن، لهو أكثر خطورة، وأعمق تأثيرا ممّا كان عليه الأمر، من قبل. فقد برزت فكرة الطائفية من جديد، وهي تلقى العناية والرعاية، تحت ذرائع متنوّعة؛ كما توافرت لها سياقات إقليمية ودولية، شجّعت أنصارها على التّهديد بتدمير مكتسبات الوحدة والاندماج المتراكمة في هذه البلدان، منذ قرون.

* الأمن في الساحل ليس أمن بلد معيّن، كلّ على حدة: وليس سياسة كلّ بلد على حدة؛ بل هو أمن جهوي شامل، لا يمكن أن يجزّأ، ولا يمكن أن تقدّم عليه الاعتبارات السياسويّة لأنّ مقبرة السياسة هي اللّاسلم، وميلادها هو استتباب السّلم.

حضرات السّادة المحترمين:

إنّ جامع الجزائر، بحكم طبيعته، كصرح ديني، ومركّب إسلاميّ، علمي وثقافي، مستعدّ للإسهام في تحقيق السّلم والتنمية في منطقة الساحل، بما يندرج ضمن مهامّه.

* فنحن مستعدّون لاستقبال طلبة العلم في المدرسة الوطنية العليا للعلوم الإسلامية “دار القرآن” الّتي تعمل لترقية المرجعية الدينية الجامعة، وتمكين الطلبة من العلوم الشرعية الأصيلة، الّتي عرف بها أجدادنا في المنطقة، دون إغفال تمكينهم من الأدوات التكنولوجية العصرية.

* ونحن مستعدّون لاستقبال نشاطاتكم الدّينيّة والثقافية والفكرية في مستوى المركز الثقافي لجامع الجزائر، بما يعزّز أواصر الأخوّة والتعاون فيما بيننا، وبما يسمح لنا بإحداث حركيّة فكريّة متجدّدة كتلك التي دأب عليها أسلافنا. من أمثال الشيخ محمّد عبد الكريم المغيلي، رحمه الله.

* كما سنكون سعداء لاستقبال تحف أثرية وعلمية، ومخطوطات من البلدان المجاورة، يزدان بها متحف الحضارة الإسلامية بالجامع. نحافظ عليها وتكون شهادة تلاقح الحضارتين: الإسلاميّة والإفريقية، ومدعاة لشعوب المنطقة، لإزالة أيّ حواجز ذهنية وأنثروبولوجية، بين شمال الساحل وجنوبه.

أيّها الحضور الكريم؛

إنّ جامع الجزائر مشروع حضاري للتأصيل، والعودة بنا إلى حضارة متسامحة ومتصالحة مع تاريخها، مثمّنة لتنوّع مشاربها، تسلك طريقها بوعي وإدراك لمرجعيتها ولغاياتها. وفي الوقت نفسه، هو منفتح على العالم وعلى العصر، آملا في أن يكون ملتقى لحوار الحضارات، وتلاقح الثقافات، مجسّدًا للبعد والخصوصيّة الإفريقيين لثقافاتنا الإسلامية والإفريقية.

وخلاصة القول: إنّ الوجود الجيوسياسي لما يسمّى بالساحل الإفريقي، لم يأت من فراغ، فهو انعكاس لوجود حضاري وامتداد أنثروبولوجي، أكبر ما يميّزه التلاقح المثمر للحضارة الإسلامية مع الحضارات الإفريقية القديمة. وفي عهد غابت فيه التوافقات، وتعدّدت فيه الخلافات، أصبح من الضروري إعطاء هذا البعد الجيوسياسي محتواه الحضاري، وحركيّته التنموية المتحرّرة، حتى يقول كلمته، ويتموضع في الحوار الدولي الجاري بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسط، وبين ضفّتي العولمة الجارفة في كلّ من الشمال والجنوب.

والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل. والحمد لله ربّ العالمين”.

النص الأصلي:  كلمة الشيخ مأمون القاسمي عميد جامع الجزائر